Sunday, October 18, 2009

مقال يستحق أن نتأمله

 تغييب العلوم الإنسانية وغياب القيم والأخلاق



د. نافلة بنت سعود الخروصية






«البعض منا استسلم تماما للموجة الطاغية من الغثائية وعدم الاكتراث بمستوى الجودة والاتقان في كل شيء، أو خنع أمام ثقافة الإفلاس الفكري، كل هذا تحت دواعي الوصولية.. نحن بحاجة إلى أن ننفض عن أنفسنا الغبار الذي علق بنا جراء حالة الركود التي باتت تهدد قيمنا بالتفسخ والضعف، القيم التي سرعان ما نتباكى عليها في طموحاتنا الطفولية وآمالنا العبثية في الوصول إلى مواقع التأثير. إننا بحاجة إلى أن ندرك ونعترف بأخطائنا لكي نعمل على إصلاحها».


إن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي أزمة أخلاق وقيم بامتياز، إذ لم يكن السبب الذي حال دون قدرة تنبؤ الخبراء الاقتصاديين بالأزمة الاقتصادية الراهنة هو عدم دقة القوانين الرياضية والنماذج الحسابية التي يعتمدون عليها، ولكن السبب في الحقيقة هو أن هؤلاء الخبراء قد تجاهلوا الطبيعة الإنسانية. وكما يقول البروفيسور جيفري جالت هارفام مدير المركز الوطني للعلوم الإنسانية في الولايات المتحدة الأمريكية «إن هؤلاء الخبراء قد أغفلوا الخصائص الإنسانية المحضة في سلوك الدائنين والمدينين والمحللين والمساهمين والتجار الذين تتحكم فيهم افتراضاتهم اللاشعورية في الغالب واللاعقلانية في بعض الأحيان، بما في ذلك نزعة التطلع إلى القبول الاجتماعي، حتى وهم غارقون في نشوة الثقة بقدراتهم التحليلية وبعقلانية وكفاءة السوق». لقد كانوا باختصار يفتقرون إلى المعرفة التنويرية التي تمنحها العلوم الإنسانية، تلك المعرفة التي تضمن لنا «استخلاص طرق التفكير البنّاءة وتطبيقها بشكل فاعل بما يمكننا من الإبحار في أعماق عوالمنا التي نعيش فيها». إن العلوم الإنسانية هي المصدر الأخلاقي الذي يكفل لنا القدرة على استشعار طبيعة الفساد الخفية وسبر أوكاره، ويساعدنا على الحد من تغلغله داخل نسيج المجتمع.


بالرغم من النزعة العلمية لدى أتباع علم الاقتصاد وأنصاره، إلا أنه لا يمكننا بحال من الأحوال عزل هذا العلم عن مسائل الأخلاق، فالنجاح الاقتصادي يجب أن لا يكون هو المحصِّلة النهائية للتلاعب بالأسواق على حساب العدالة الاجتماعية، وإنما ينبغي أن يتأسس على اعتبارات أخلاقية وضرورات قيمية لا تتوفر إلا في منظومة العلوم الإنسانية. وكذلك الحال في مجال الطب، فإن القضايا الخلافية التي عادة ما تواجه الأطباء، لا يمكن التعامل معها إلا من خلال منظومة العلوم الإنسانية التي تمثل بالنسبة لهؤلاء الأطباء المعين الذي ينهلون منه روح الاستعداد والمقدرة على مواجهة تحديات المعضلات الأخلاقية واتخاذ القرارات الصائبة في الأمور التي تتعلق بالحياة والموت.


يجب أن لا نستسلم للمفهوم السائد القائل إنه ليس ثمة من يريد المعرفة من أجل المعرفة وأن الجامعة يجب أن تكون تذكرة الانتقال إلى ميدان العمل المهني، كما يجب أن نتعامل بحذر شديد مع إدارة الجامعات على أنها شركات تجارية جل همها ضمان استمرارية الدخل المادي الناتج عن براءات الاختراع والأنشطة الاستشارية، على حساب مهمة تنشئة جيل من المفكرين العظماء. وبالمثل فإنه من غير المعقول أن يصبح العائد المادي الذي يقاس بالمنفعة الصناعية أو التجارية هو المحرك الرئيسي للبحث العلمي، بل ينبغي أن يكون هناك توازن بين أغراض البحث العلمي من أجل المعرفة وتوسيع آفاقنا الثقافية، وبين البحث العلمي في العلوم الطبيعية للأغراض التجارية، وأن ينظر إلى هذا التوازن في حد ذاته على أنه غاية نبيلة.


ولنكن نحن معشر الأكاديميين على حذر من أن تتلوث لغتنا بالمفردات الشائعة التي باتت تروج لها الشركات التجارية، بحيث أصبح الطالب في عرف هؤلاء مجرد مستهلك والمعرفة منتجا وسلعة، كما ينبغي علينا أن نحذر من أن نتبنى أو نتأثر بالطبيعة الجشعة لمديري التسويق ونزعتهم نحو تبرير وترويج ثقافة تضخيم قيمة المنتَج.


إن المعرفة المستقاة من العلوم الإنسانية بطبيعتها ليست مما يمكن للمستهلك أن يقيمه كما لو كان يتعامل مع سيارة أخرجها للتو من المصنع، بل إن الأمر مغاير تماما، فحسب الوصف الدقيق الذي يذكره البروفيسور ستانلي كاتز مدير مركز الدرسات الأدبية والسياسات الثقافية في كلية وودرو ولسون بجامعة برنستون الأمريكية فإن «العلوم الإنسانية تهتم بغرس القيم الفكرية وصقل القدرات الذهنية لضمان الإدراك العقلي للمعرفة والتحليل الناقد لها، أكثر من اهتمامها بحفظ وخزن كم محدود من المعلومات». إنها المعرفة التي يجلُّها الناس على مر الزمن، ويجسدها أولئك الذين كان جل همهم العمل من أجل التغيير الإيجابي في المجتمع، إنها المعرفة التي يتجلى لنا أثر غيابها حينما نرى أولئك الذين ينظرون إلى مواقعهم الوظيفية على أنها فرص سانحة لملئ خزائنهم التي لا تنفك تقول هل من مزيد، بدلا من أن ينظرون إليها على أنها فرص للوفاء بالتزاماتهم ومسؤولياتهم تجاه مجتمعاتهم.


ونتيجة للثقافة التجارية المستشرية في مجتمعاتنا اليوم ونتيجة للتأكيد المفرط على مفهوم التجريبية، فإن العلوم الإنسانية حسب ما يقوله البروفيسور ليون بوتشتاين عميد كلية بارد «قد تعرضت لنوع من الإهمال حينما نُظر إليها على أنها من كماليات الحياة، بدلا من النظر إليها على أنها أساس الحياة». ومع التآكل الذي أصاب العلوم الإنسانية نتيجة هذا الإهمال رأينا أناسا لا يعرفون القراءة والكتابة وغير قادرين على بلورة أفكارهم وصياغتها والتعبير عنها. لقد أصبح الإنترنت ملاذ أصحاب العقول العاجزة وبات الانتحال ركنهم الركين. لقد أصبحنا نرى شبابا يفتقرون إلى المعرفة المشتركة، المعرفة التي بدونها يصبح مفهوم التكافل والتضامن في المجتمع من قبيل الأوهام أو من قبيل المفاهيم المتلاشية على أحسن تقدير. أما المعرفة فقد اختزلت إلى مصطلحات تجارية وأصبحت تقاس بمقدار ما تقدمه من منافع مادية، وبذا باتت الدافعية للحصول على المعرفة مرتبطة بمثل هذه المفاهيم النفعية. لم يعد ينظر إلى قراءة روائع الأدب أو التاريخ أو الفلسفة على أنها تدريب للعقل على التفكير والتحليل وحل المشكلات، وأن أسلوب التفكير الناقد المستخلص من قراءة مثل هذه الروائع هو وسيلة للتنبؤ وحل مشكلات ليس بالإمكان حلها عن طريق أكثر النماذج العلمية دقة وتعقيدا. ونتج عن هذا الإهمال أن أصبح الطلاب لا يدركون أهمية هذه العلوم ودورها في حاضرنا ومستقبلنا، واللوم كل اللوم يقع علينا نحن المربين.


بالرغم أننا قد نتهامس في أروقتنا الهادئة داخل مؤسساتنا الأكاديمية، أو نُنكِّس رؤوسنا بصمت تعبيرا عن عدم الرضا، أو نتكلف الابتسامة الساخرة حول آخر استراتيجية تجارية تم غرسها في خاصرتنا، إلا أن الكثير منا تنقصهم الجرأة في الإفصاح عن الحالة التي وصل إليها النظام التعليمي في كثير من مجتمعاتنا. البعض منا استسلم تماما للموجة الطاغية من الغثائية وعدم الاكتراث بمستوى الجودة والاتقان في كل شيء، أو خنع أمام ثقافة الإفلاس الفكري، كل هذا تحت دواعي الوصولية. نحن بحاجة إلى أن ننفض عن أنفسنا الغبار الذي علق بنا جراء حالة الركود التي باتت تهدد قيمنا بالتفسخ والضعف، القيم التي سرعان ما نتباكى عليها في طموحاتنا الطفولية وآمالنا العبثية في الوصول إلى مواقع التأثير. إننا بحاجة إلى أن ندرك ونعترف بأخطائنا لكي نعمل على إصلاحها، لأن «جهلا نقرُّ ونعترف به خير من معرفة نتوهمها» كما يقول الخبير التربوي بوتشتاين.


إنني أدعو زملائي في الجامعات والمراكز الوطنية للعلوم الإنسانية إلى أن نتولى زمام المبادرة وأن نبدأ رحلة التغيير في مجتمعاتنا. إن الطريقة التي ندرِّس بها العلوم الإنسانية أهم بكثير من المحتوى الذي نُدرِّسه. يجب علينا أن نتحدى طلابنا لكي يجيبوا على أسئلة كيف؟ ولماذا؟ أكثر من التركيز على أسئلة كم؟ ومتى؟ ينبغي علينا أن نغرس فيهم قيم التفكير والتساؤل. نحن بحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن نقف سدا منيعا أمام الموجة العاتية من حالة الاستخفاف التي بدأت تعصف بشبابنا وإعادتهم إلى شواطئ المثالية والهمة العالية. يتوجب علينا أن نعيد تعريف النجاح لهم، وأن نؤكد على أنه ليس مرادفا للمحسوبية. إن المقررات التي تدرَّس في العلوم الإنسانية ينبغي أن لا تكون مجرد حفظ واجترار للأرقام والمعلومات، وإنما علينا أن نلهم طلابنا ونتحداهم في الوقت نفسه، كما ينبغي علينا أن نعمل على إخراجهم من حالة السبات الذي يعيشون فيه لكي يفكروا بأسلوب عقلاني وناقد بقضايا من مثل كيف أن الماضي قد شكل حاضرنا وكيف يمكن لحاضرنا أن يشكل مستقبلنا.


يجب أن لا يقتصر تدريس الأدب على قراءة القصائد الشعرية أو النصوص البلاغية والنثرية، بل ينبغي أن يكون وسيلة لتدريس التفكير الناقد والبنَّاء، وأداة لتعلم كيف نشارك الآخرين مشاعرهم، ووسيلة تساعدنا على تحدي مدركاتنا وتمكننا من التحرر من افتراضاتنا المستقرة في أذهاننا. يتحتم علينا أن نزود الطلاب بالمهارات اللازمة التي تمكنهم من الانخراط الإيجابي والفاعل في المجتمع المدني بما يكفل لهم القيام بمسؤولياتهم وواجباتهم المتمثلة في إسهامهم في الرقي بأنفسهم ومجتمعهم، فليس كافيا أن نعرف ما هي القوانين، وإنما أن نستشعر كيف تؤثر هذه القوانين في المجتمع، والآثار المترتبة على غياب مثل هذه القوانين.


إن إتقان اللغة والتمكن منها لا يعني فقط أن يكون الواحد منا خبيرا بمفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية، أو أن يكون قادرا على نطق كلماتها منفردة بشكل سليم، وإنما يكون إتقان اللغة في استخدام تلك اللغة في مواقف حياتية حقيقية بغرض إحداث تغيير إيجابي في المجتمع. إن التمكن من اللغة هو امتلاك مهارة استخدامها كأداة توصيل للمعرفة المشتركة التي تجود بها علينا العلوم الإنسانية. والقواعد النحوية من دون الثراء الذي تمنحه لنا الفنون والعلوم الإنسانية إنما هي وعاء فارغ، وقوالب جامدة لا حياة فيها ولا روح لأنها تفتقر إلى المحتوى الإنساني.


يتوجب علينا أن نعلم طلابنا من خلال العلوم الإنسانية الآثار الاجتماعية والأخلاقية للعلوم الطبيعية وحدود إمكاناتها. ينبغي أن ندرب الطلاب على إدراك أنه لا يمكن اختزال كل مشاكل المجتمع في معادلات رياضية أو مسائل حسابية ونماذج علمية صارمة، وأن نغرس فيهم مفاهيم عن أبعاد الطبيعة الإنسانية التي تستعصي على التنبؤ، وعن آمالها وطموحاتها، وعن نظمها وقيمها، وكل هذه الأمور هي مما لا يمكن الحصول عليه إلا من العلوم الإنسانية.

جريدة عمان : صفحة قصايا وآراء





3 comments:

  1. مقال يستحق الوقوف والتأمل بصدق
    فقط سؤالي ..

    من الذي ترجم المقال إلى العربية؟؟

    حسبي من العلم أن الدكتورة نافلة لا تكتب بالعربية أما أنا مخطئ؟؟؟

    ReplyDelete
  2. مرحبا عزيزي معاوية
    صراحة لا أدري إن كانت الدكتوره نافله هي من كتب المقال بالعربية او انه مترجم ، ولكن إن كان مترجم فمن المفترض ان ينوه باسم المترجم

    عموما بسؤالك هذا فتحت بابا ينبغي الالتفات إليه ونقاشه بكل صدق فعلى سبيل المثال الدكتوره نافله لها العديد من المشاركات على مستوى العالم ولكن نتاجها مغيب عن الوسط الثقافي في عمان فمثلا في شهر يوليو الماضي اطلعت بشكل سريع على برنامج احد المؤتمرات عن تحليل الخطاب فوجدت ان الدكتوره نافله قد شاركت فيه والمؤتمر عقد في ملبورن باستراليا، كما ان هناك مشاركات للدكتوره نجمه الزدجالي وغيرهم من الباحثين العمانيين الذين يكتبون بالانجليزية او بلغات غيرها المشكله ان نتاج هذه البحوث والدراسات تظل في منأى عن التداول الثقافي في عمان بسبب حاجز اللغة ، فأنت تعلم ان هناك منتديات ومدونات لكتاب عمانيين بالانجليزية ولكن يبقى حاجز اللغة يبقى سدا منيعا يحرم المتحدثين او القراء الذين يجيدون العربية فقط من الاطلاع على ثمرات تلك البحوث كما ان أولئك الباحثين لا يجدون صدى في عمان لما يكتبونوه بكل أمانة وإخلاص من قبل المعنيين او المهتمين بالقضايا التي كتبت عنها تلك البحوث.

    هل سمعت مثلا عن الدكتور سمير العدوي، تفاجأت منذ فترة عندما اخبرني احد الزملاء الدراسين في استراليا عندما اخبرني انه اخذ مادة في علم النفس ومن ضمن المقرار دراسه قام بها الدكتور سمير العدوي الدراسة اجريت في عمان وعن عمان، وتعتبر من افضل الدراسات التي تتعلق بجانب في علم النفس وذلك حسب وصف زميلي الذي درس تلك المادة، تخيل ان تلك الدرسة التي اجريت في عمان وتدرس في استراليا وربما في غيرها من الدول ولكن تبقى الدراسة ومن قام بها مجهولة لدى الغالبية في عمان فمابالك بمن نقول عنهم مثقفين، سألت قريب لي يدرس في كلية الطب عن الدكتور سمير العدوي فهالني من سمعته منه من تمكن الدكتور العدوي وسعة معرفته وطريقة تدريسه
    ولكن السؤال المهم الان لمصلحة من يتم تغييب مثل هذه الاصوات العلمية المؤهلة والمدربة بدون ان يتم نشر وترجمة دراساتهم وبحوثهم لتسهم بالرقي والتقدم في عمان ذلك السؤال لا اجد له جوابا
    هل لديك من جواب يا صديقي العزيز؟

    ReplyDelete
  3. صحيح ما قلته يا عوض ولكن لا حياة لمن تنادي

    ReplyDelete