يكثر الحديث في كثير من الاحيان وخاصة في الحقل التربوي عن المشاكل التي تواجه الطلبة في تعلم اللغة العربية، وصعوبات القراءة
وغيرها من المشاكل كما ان هناك في ذات الحقل حديث عن صعوبات تعلم وتدريس اللغة الانجليزية، وغيرها من اللغات التي تدرس الان في عمان في مستويات الدراسة الجامعية او في العديد من المعاهد الخاصة. التربويون والمشتغلون بالتخطيط التربوي ربما لهم آلياتهم وطرقهم في فهم تلك الصعوبات وطرق حلها. في الضفة الاخرى ، هذه الصعوبات ما هي إلا القمة الطافية من جبل الجليد ، الذي يكمن تحته الكثير من التعقيدات التي يغلفها الوضع اللغوي في عمان.
*************
ليس بخاف على احد ان عمان تمتلك ثروة لغوية هائلة من خلال اللهجات واللغات التي تتحدث بها كثير من المجموعات اللغوية الموزعة على الخريطة العمانية. هذا التنوع المدهش يشكل في حد ذاته حقلا خصبا للمشتغلين باللغويات بشكل عام، لا شك ان هناك العديد من الدراسات التي اجريت بطرق علمية على اللهجات العمانية في القرن العشرين وما زالت البحوث تتوالى في القرن الحادي والعشرين، لكن تلك الدراسات بحاجة إلى متابعة، كما ان اغلب اللهجات العمانية غير مدون وغير مدروس بالمرة، ولست هنا بصدد تقييم الدراسات العلمية التي اجريت او التطرق لبعض المحاولات التي سعت لدراسة اللهجات العمانية من منطلقات مختلفة او حتى تلك النقاشات التي تثار من بعض الصحفيين او المتابعين للشأن اللغوي في عمان عبر المواقع الالكترونية. الحديث او مناقشة اللهجات في عمان او حتى دراستها وإن اختلفت الرؤى والاطاريح إلا ان ذلك يصب في اتجاه واحد ويشير إلى قضية مهمة وهو غياب الاهتمام بشأن اللهجات العمانية بشكل رسمي ، فمن المعلوم ان الشروع في دراسة الوضع اللغوي المعقد في عمان يحتاج إلى عدد كبير من المختصين في الشأن اللغوي على مختلف الاصعدة سواء في الصوتيات، علم اللغة الاجتماعي، علم الصرف، الانثربولوجيا اللغوية ، علم النفس اللغوي، علم اللهجات، علم اللغة التاريخي وغيرهم من الاختصاصيين. كما أسلفت هناك دراسات اجريت على اللهجات العمانية او كما يسميها البعض (عربية عمان) او لغة مسقط. ما درسته تلك الدراسات رهين بالفترة الزمنية التي اجري فيها البحث، ولكن هناك قضية اخرى ان اللغة تستمر في التطور والتبدل ولا تقف عن حد معين. فاللغة سريعة التغير والتبدل وذلك حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحسب التداخل والتبادل اللغوي الذي يتم بين الجماعات اللغوية في عمان.
***********
ما علاقة تنوع اللهجات العمانية بصعوبة تعلم اللغة العربية؟ قبل البدء في الحديث عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أسباب تنوع اللهجات العمانية. علماء اللغويات التاريخية وعلماء اللهجات عندما يقارنون بين لغات ولهجات تنتمي إلى نفس العائلة اللغوية يبدأون بتجميع العينات اللغوية وترتيبها ، بعد ذلك يدرسون تلك العينات في مستواها الصوت ويلاحظون ما إذا كان هناك تغير على مستوى الفونيمات( الفونيم اضغر وحد صوتية) وذلك بدراسة كل لغة على حده وتحديد الصوائت والصوامت ومخارجها ومكان النطق بها. دراسة اللغة من خلال المستوى الصوتي يسهل عملية المقارنة فيما بعد بين اللهجات او اللغات التي تنتمي للعائلة واحدة . بطبيعة الحال العلماء بعد المقارنات والتحليلات سيخلصون إلى نتائج وهذه النتائج بحاجه إلى تعليل وإيجاد أسباب تاريخية، اجتماعية، عرقية، جغرافية ، قبلية. خلاصة الامر ان الدرس اللغوي لا يكتفي بتوصيف اللغة او اللهجة ولكن أيضا يسعى لفهم أكثر عمقا للظواهر اللهجية واللغوية. فالدرس اللغوي ينطلق من الجزئي للوصول إلى الكلي وهذه الطريقة تعطي الباحث اللغوي المجال للخروج يتعميمات وتوصيفات اكثر دقة ومنهجية للوضع اللغوي. بالنظر إلى عمان نلاحظ ان توزع السكان في أماكن مختلفة ومتعددة، كل منطقة سكنية تفصل بينها وبين الاخرى ظواهر جغرافية كالجبال او الاودية او السهول او الصحاري، كما ان هناك اسبابا قبلية او مذهبية او اجتماعية او اقتصادية. ويحدث ان تنفصل مجموعة من الناس عن المجموعة الام لتشكل بذاتها مجموعة جديدة وذلك بالطبع يقتضي ان تتغير اللهجة التي تتحدث بها هذه المجموعة الجديدة، التغير بالطبع لا يحدث بين يوم وليلة بل يستمر لسنوات وذلك رهين من جانب الاخر بمفهوم الهوية الذي تشكله هذه المجموعة الجديدة لذاتها كما يعتمد على الروابط التي تجمعها بالمجموعة الام او التواصل مع مجموعات جديدة. التغيرات يمكن ان تصنع من خلال التصاهر او التحالفات التي تكون بين المجموعة الجديدة والمجموعات الاخرى. كل هذه التغيرات والتبدلات ظلت تحدث وتتكرر دون ان يكون لدينا أي دليل مكتوب وموثق، وذلك كحال الكثير من التاريخ العماني. ولكن الدرس اللغوي يعلمنا ان اللغة او اللهجة في ذاتها تحتوي على الكثير من المعلومات التي يمكن استنطاقها وفهما، فاللهجة تحتوي في ذاتها على منظومة معقدة من العلامات والمحمولات اللغوية التي لا يمكن لاحد ان يكتشفها سوى المختص او اللغوي المدرب على التحليل ودراسة اللغة بشكل علمي كما يدرس البيولوجي الخلية في مختبره. بطيبع الحال الانسان ككائن لغوي وهنا بالتحديد الانسان العماني قبل السبعينيات كان يعيش في تجمعات بشرية تحتفظ بصفاتها القبلية والاجتماعية بشكل صلب وغير قابل للتغير، ولكن مستوى التواصل كان محدودا لحد ما مع بقية المجموعات مما يعني ضعف التأثر بمتغيرات لغوية جديدة ، ما لم تكن هناك حروب او صراعات او تحالفات، لنفترض ان اللوضع اللغوي سابقا كان اكثر استقرارا في الغالب إذ كان من الصعب على المتحدث بلهجة جبلية ان يحدث ويتواصل مع شخص يتحث بلهجة اهل الساحل، العزلة المكانية والقبلية تفرض نقسها على الوضع اللغوي. بعد النهضة حدثت طفرة في مجال التواصل او بالاحرى النهضة قامت بتسريع وتيرة التواصل بين المتحدثين بمختلف اللهجات، مع بدء التعليم وامتداد طرق المواصلات والاذاعة والتلفاز هذه العوامل ساعدة على اكتشاف لهجات وطرق للحديث مختلفة كلية عن ما كان معتادا في السابق، بعد النهضة اصبح الوضع اللغوي مختلفا عن السابق وذلك مما خلق وضعا لغويا جديدا.
مُتابع للسلسلة..
ReplyDelete