Tuesday, April 2, 2013

الحق بين الاعتقاد والقيمة 1/3


لقد انشغلت البشرية في طوال مسيرتها على هذه البسيطة بمناقشة وتحليل العديد من القضايا والمفاهيم، وقد حظيت بعض المفاهيم بالكثير من البحث والنقاش على مختلف المستويات الفكرية ودرست من جوانب مختلفة ومتعددة ولفترات زمنية طويلة. وعند الحديث عن كلمة "الحق" نجد أنها تحيط محاطة دلالات ومكتنزة بحمولات فكرية ليس على صعيد لغة او ثقافة منفردة على حدة بل مختلف لغات وثقافات العالم. وبرغم تعدد وتنوع مسميات الحق في لغات العالم، وتنوع وتنوع دلالات ومفاهيم الحق إلا أنها تعتبر من الكلمات المفتاحية في الثقافة الإنسانية وقلما تجد لغة لا تحتوي عليها.وتكتسي كلمة الحق مكانة خاصة ومركزية في ثقافتنا العربية الإسلامية لكون "الحق" اسم من أسماء الله الحسنى.
 

وقد جاء ملف "الحق باعتباره اعتقادا وباعتباره قيمة" الذي نشر ضمن باب "المحور" في مجلة التفاهم في العدد الثامن والثلاثين (خريف 2012م /1433هـ) من باب حرص وعناية أسرة تحرير مجلة التفاهم على بسط القول في هذا المفهوم الإشكالي في الفكر الإنساني بشكل عام. وقد جاء هذا المحور مشتملا على ثماني دراسات تنوعت في مقارباتها للحق. وهذه الدراسات هي "الحق في الخطاب القرأني والمنوكات الكلامية الإسلامية " لرضوان السيد، "فكرة الحق والفناء عند المتصوفة" لمحمد بن الطيب، " النواميس الأفلاطونية وفلسفة الوجود: الحق بين الاعتقاد والقيمة" لراوية عبدالمنعم عباس، " عالم الطبيعة وعالم الدين لدى كانط" لفتحي المسكيني، "العالم إرادة وتمثلا عند شوبنهاور" لأمل مبروك عبدالحليم، "الدين في الفلسفة الحديثة" ل عبدالله السيد ولد أباه، تفكير الفلاسفة واللاهوتيين في الدين أو فلسفة الدين" ل محمد بو هلال ، و " فيخته: أساس الحق الطبيعي".

تأتي الآية القرانية الكريمة (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) مرتكزا أساسيا لكلمة رئيس التحرير بعنوان "الحق باعتباره اعتقادا وباعتباره قيمة" يؤكد الدكتور عبدالرحمن السالمي على أن " الحق في الخطاب القرآني هو الثابت والمتحقق؛ ولذا فهو في أعلى درجاته اسم من أسماء الله تعالى، أما المعاني الثواني أو الفرعية لمفرد الحق، فإن جذرها الأصلي والإلهي يحضر منه الثبات والتحقق، ولا يحضر فيه الإطلاق الذي يقتضيه الوجود الإلهي، وتقتضيه الوحدانية. وبهذا القدر أو بهذا الترتيب يدور الخطاب القرآني حول مسار الحق في سيرورة الدعوة وصيرورتها،  ولذا كان الخيار الواضح في الآية القرانية". ثم يمضي السالمي في استخلاص مضامين الحق في الخطاب القرآني عبر مرتكزين أثنين من حيث أنَّ الحق اعتقاد بوجود الله ووحدانيته وفروض العبادة والولاء والطاعة بمتقضى هذا الاعتقاد. والحق أيضا في ذات الوقت قيمة تتضمن مسارا معينا للإنسان من النواحي الأخلاقية ومن النواحي السلوكية تجاه نفسه وتجاه الأخرين من بني البشر. ثم يخلص السالمي إلى الحق-سواء أكان قبولا أو رفضا- وإن كان اختياريا فإن هذا الاختيار لهو اختيار كبير الآثار والتداعيات. فالذي يقبل ويرتضي هذا خيار الحق وإتباعه إيمانا وسلوكاً فهو يحول هذا الاختيار إلى قيمة محفزة له على خدمة نفسه وخدمة غيره من البشر. بينما تتحول هذه القيمة لدى المنكر لها أو الرافض لمبدأ الحق الواضح إلى النقيض تماما فهنا تقوم على الجحود والإنكار الذي ينال من التكفير كما ينال من السلوك.

في دراسته "الحق في الخطاب القرآني والمنظومات الكلامية" يشير الدكتور رضوان السيد إلى أن النخب الإسلامية في القرن الثاني الهجري قد سلكت ثلاثة مسالك في اتجاه إيجاد أساليب ومقاربات لفهم الخطاب القرآني، والمقاربات هي المقربات اللغوية واللسانية، والمقاربات الفقهية ، والمقاربات الكلامية. ففي كتاب أبي عبدالله الحسين بن محمد الدامغاني الموسوم ب" الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز" نجد أن هناك اثني عشر وجها لتفسير "الحق" وبحسب الدكتور السيد فإنَّ المقاربات اللسانية التي أوصلها تحليلها وفهما لمفردة الحق في الخطاب القرآني إلى الاختلاف في تفريعات واشتقاقات المعاني المختلفة هو بسبب ارتهان اللغويين إلى أن لكل مفردة قرآنية معنى رئيسا ومعاني فرعية وثواني. وهذا يدل على أن مفرد الحق ينطوي على معنى رئيس هو الثبات والإطلاق ولذلك ذكر المفسرون الحق باعتباره اسما من اسماء الله الحسنى فهو عزل وجل حق متحقق بإطلاق. اما الوجوه والمعاني الأخرى الواردة في السياقات المختلفة للمفرد ذاته فإنها تتضمن معنى الثبات الذي ينفرد به المولى عز وجل" ص 13. فتأمل من جهة الثبات والتحقق يقينا بالبرهان أو بشهادة العيان يفضي بنا إلى الوقوف على حقيقة مفادها أنَّ مفرد الحق الوارد في القران زهاء الثلاثمائة مرة بالصيغ الاسمية والفعلية إنما يشكل مفتاحا لفهم جوهر وحقائق الدعوة القرآنية ومسارها الذي يشير إلى الله هو الحق وجودا ووحدانية، القرآن هو الحق والإسلام هو دين الله الحق. وأخيرا فإن الصدق والعدل من المعاني الثواني أو الفرعية الأخرى. وفي الجزئية المتعلقة بالحق في الخطاب القرآني يختم رضوان الشيد حديثه ب" ويرد مفرد الحق في القرآن الكريم في سياقات التمايز والتمييز بين السلوك السليم في مسائل العقيدة، والمسالك المنحرفة في الاعتقاد والسلوك. وفي هذا المعرض أو المعارض يخوض القرآن جدالا متعدد المداخل، وبصيغ مختلفة بينها السؤال الاستدراجي، والسؤال الاستنكاري، والتساؤل العقلاني، وأسلوب الحكيم كما يقول البلاغيون، ليؤول الأمر في كل مرة إلى تقصد الإبلاغ الذي يفتح آفاقا شاسعة للالتقاء على دعوة الحق بالكلمة النيرة الهادية (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الانفال 7.

أما ما يتعلق بالحق في المنظومات علم الكلام الاسلامي فيشير السيد في البداية إلى البحوث الكلامية تهتم بتصحيح الاعتقاد. وموضوع الاعتقاد هو  موضوع  الحق والباطل: إنه إثبات الحق أو الاقتناع به بالاقتراب بين النصوص والأدلة العقلية. وهو يتضمن المجادلة إنما من موقف ثابت يتنازل أسلوبيا وتكتيكيا، لكنه في  الأعم الأغلب لا يغير قناعاته؛ لأنه واثق من وقوفه على أرض الحق، وغيره – ممن لا يعتقد آراءه وإن لم يكن خصما له- واقف على أرض الباطل" ص15. فمن هذا المطلق كان علم الكلام الثاني بعد علم الفقه من حيث ابتداء العلماء المسلمين بالتأليف والتقعيد له، وترجع أسباب التأليف أو الدوافع للتأليف في علم الكلام إلى أسباب خارجية وداخلية، فالخارجية أتت كرد فعل على مواقف أصحاب الديانات الاخرى من الإسلام كعقيدة ومنهج جديدين. اما الأسباب الداخلية فترجع إلى ثلاثة أسباب هي: الصراع على السلطة أيام علي وعثمان رضي الله عنهما، استخدام السلطات لبعض الأفكار الدينية من اجل الشرعنة والدفاع عن المواقف في وجه الخصوم، اما ثالث هذه الأسباب الداخلية فهو الظواهر القرآنية وخصوصا مسألتي الإيمان والقدر في بادئ الأمر ومن بعد ذلك مسألة تنزيه الله وعدله ورحمته. ويدو النقاش في المحور الكلامي حول خمس مسائل كلامية مرتبة تاريخيا وليس حسب عقائديات المنظومات الكلامية كما فصلها المعتزلة في أصولهم الخمسة، كما أن النقاش يخرج أو ينظر للمائل الكلامية وأسباب ظهورها التي ذكرت سابقا الخارجية والداخلية منها. وهذا المسائل هي ؛ مسألة الإيمان/ القدر والكلمة الحق فيه/ وحدانية الله وتنزيهه/ الحق في الرحمة والحق في العدل/مسألة النبوة.

لقد كانت مسألة الإيمان من أوائل المسائل المثارة في الجدال الكلامي عند المسلمين وقد جاءت هذه القضية بسبب الخلاف السياسي الحاصل ثم تطورت إلى مسألة كلامية فالقضية في الأساس أو منطلق الحوار فيها كان حول دماء الصحابة التي سفكت في النزاع السياسي الحاصل في تلك الفترة المبكرة، وبنهاية القرن الهجري الأول سميت هذه القضية ب" مسألة مرتكب الكبيرة أي مرتكب جريمة القتل" فهل مرتكب الكبيرة خارج عن حد الإيمان؟ هذا ما أثار التنازع على الحق بين مختلف التيارات الكلامية والسياسية في تلك الفترة. وبالنظر إلى مسألة القدر (خلق الأفعال) فإننا نجد أن أسباب ظهورها تعود إلى ثلاثة أمور، الأول هو نظام الأمويين السياسي، الثاني النقاش مع نصارى الشام والثالث هو الجدل الدائر حول آيات القدر وتأويلها من حيث تنزيه الله سبحانه وتعالى وعدله محكمته. وقد قام كل فريق بتوظيف كل ما لديه من وسائل تأويلية وسياسية لفرض وجهة نظره على حساب أراء الآخرين.

يشير السيد في ص 20 إلى أن مسألة وحدانية الله وتنزيه فقد بدأ النزاع حول الحق فيها بين المسلمين والنصارى بشأن التوحيد ومقتضياته، وأدب الرد على النصارى حافل بالحوار حول ألوهية المسيح والتثليث. ولكن الملاحظ أن الجدل في هذه القضية قد انتقل إلى شأن داخلي في الفكر الإسلامي حين بدا النقاش في مسألة الحق في مسألة التنزيه الإلهي. فقد ابتدأ الجدال في هذا الأمر عند الجهمية والمعتزلة حول قضايا التشبيه والتجسيم وامتد الاستشهاد ليشمل القران الكريم والحديث الشريف وامتد النقاش ليصل إلى كلام الله وصفاته.

لقد حظيت مسألة الحق في الرحمة والحق في العدل بنقاش وجدال أيضا فالمعتزلة تسمي الرحمة لطفا ولا يعتبرونها من صفات الله بينما يعتبرون الله عادلا بالأولية ويرى الأشاعرة  أن الحق في المسألة أن الرحمة والعدل كليهما من صفات الله لكن الرحمة هي المقدمة في نظامهم الكلامي؛ فالله سبحانه مع العباد عند المعتزلة بعدله ولطفه، واللطف يتمثل في إرسال الرسل، والاستحثاث على الإيمان والطاعات. اما عند الأشاعر فإن الله سبحانه وتعالى مع عباده دائما برحمته وعنايته وفضله وعندهم أنه لا أحد ينجو بعمله مهما كان صالحا، وإنما كما ذكر القرآن، فإن الله سبحانه كتب على نفسه الرحمة، قال: إن رحمته وسعت كل شيء والرحمة لا تتنافى مع العدل لكنها أعلى ويقع العدل ضمن اعتباراتها الفرعية أو وجوهها الأخرى. ص21-22. وقد كان من نتائج الجدال حول هذه المسألة أن برز مذهبان كلاميان هما: مذهب التنزيه والعدل، ومذهب الرحمة والفضل، وكلا الفريقين يعد مذهبه هو الحق الذي لا مرد له.

أما المسألة الخامسة فكانت حول مسألة النبوة المسألة التي يجمع عليها جميع المسلمين من متكلمين أو غيرهم فالجهود الكلامية الإسلامية هنا جاءت في الرد على المسيحين واليهود في البداية ثم مع بداية القرن الثالث الهجري جرى النقاش مع البراهمة أو الهندوس الذين لا يقولون بالنبوة لعدم الحاجة إليها. وقد جاء الرد عبر استخدام ثلاث طرق تضمنت الاستدلال بالإشارات الواردة في التوراة والإنجيل عن النبي صلي الله عليه وسلم، الاستدلال بإعجاز القرآن والاستدلال برحابة الدعوة النبوية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ويختم السيد مقاله بأن المنظومات الكلامية ما كانت ناجمة مباشرة عن الخطاب القراني بل تأثرت كثيرا بظروف التجربة التاريخية للمسلمين وبظروف المدارس الكلامية المختلفة، ولذلك فقد ظلت متباينة وكثر حولها الخلاف، وهكذا يبقى الحق القرآني فوق التاريخ وفي قلبه، بينما جرى تجاوز التجربة التاريخية وكلامها وفقهها بالأمة التي تحتضن القرآن والرسالة، واجتهاداتها وإجماعاتها".