Sunday, October 18, 2009

رؤية عن الوضع اللغوي في عمان 2/3


 الطفل العماني قبل سن المدرسة يتشرب اللهجة التي تتحدث بها الاسرة في المنزل، يتواصل مع اقرانه في الشارع، وإن حدث وكان نصيب ذلك الطفل ان يكون والده ممن تقتضي وظيفته ان ينتقل من مكان لاخر ان يتحدث بلهجة البيت والتي تختلف عن اللهجة التي يتحدث بها مع أقرانه في الشارع فهنا هذا الطفل يكون نصيبه ان يكون ثنائي اللهجة. قبل سن المدرسة يكون الطفل العماني قد تشرب الانظمة النحوية والصرفية والصوتية للهجة. اي لهجة لها نظام صوتي وصرفي ونحوي وإن لم تكن تلك اللهجة مكتوبة، وهنا النقطة المهمة والتي تتضمن في حقيقتها الصعوبات التي سيواجهها الطفل عندما يبدا في تعلم اللغة العربية. في المدرسة وفي الصفوف الاولى للدراسة يكتسب الطفل لغة جديدة فعقله يعامل العربية على أنها نظام لغوي جديد. فالبعض يتأقلم مع اللغة الجديدة ويتعلمها بكل سهولة ولكن البعض يضل يعاني من صعوبات جمة. فكثير ما تسمع من يقول لك انا احب تعلم اللغة العربية ولكني لا أفهم النحو. فالطفل طيلة سبع سنوات قبل المدرسة يستخدم اللهجة بكل أريحية وسهولة. قد يحصل ويتعلم الطفل قبل المدرسة شيئا من القران الكريم، ولكن تبقى المشكلة قائمة فالجهاز اللغوي للطفل يتعامل مع اللغة الفصيحة على أنها نظام جديد يزاحم النظام الأصلي الذي كونته اللهجة. فالحديث هنا عن تصادم بين نظامين لغويين مختلفين كليا. الادهى عندما يبدء الطفل بتعلم الكتابة باللغة العربية وهنا ينتقل من المستوى الصوتي إلى المستوى الكتابي. المستوى الكتابي للغة يتعامل معه عقل الطفل وكأنه نظام جديد أيضا. نصيب تدريس العربية محدود داخل المدرسة ونصيب ممارستها خارج المدرسة أكثر محدودية. زيادة على ذلك، يتعلم الطالب ان اللغة العربية الفصحى هي اللغة التي يجب ان نتحدث بها وهي المستوى الراقي من اللغة وان اللهجة هي المستوى الادنى ، هذا الازدواج اللغوي يخلخل النظام اللغوي في دماغ الطفل ويجعله في حيرة من امره ، فهو هنا يقيس ما يتعلمه من دروس في العربية بما هو مخزن في ذاكرته من اللهجة التي تربى عليها، يقرأ القران فلا يفهم من معانيه سوى القليل يشاهد التلفاز فيجد لغة او مستوى لغويا مختلفا، وإن حدث وشاهد رسوما بلهجة عربية قريبة او بعيدة سيزيد ذلك من التشوش اللغوي في ذهنه. كل هذه الفوضى اللغوية التي تحاصر ذهن الطفل لا نستطيع الجزم أنه سيحرج منها وهو قادر على هضم كل هذا الكم اللغوي الذي يحيط به. ردات الفعل تجاه الوضع اللغوي غير مضمونة العواقب. هنا لا ألقي اللوم على أحد ، الجميع امام مشكلة حقيقة الطالب يدرس العربية او الانجليزية لمدة 12 سنة ويتخرج وحصيلته اللغوية دون المستوى المتوخى منه. هناك عوامل مختلفه ومتعددة تدخل في صميم تلك الصعوبات ولكن يعني ذلك اننا في الحقيقة لا نعيش مفارقات لغوية صامدة ومؤثرة جدا دون ان نعيها، نحن ننتقل من مستوى لغوي إلى آخر ولكن هذا الانتقال له تأثيرات وتفاعلات غاية في الاهمية.


******************************

دراسة اللهجات ليست ترفا معرفيا كما ان علم اللغة ليس مجاله المقارنات والتبريرات فقط بل ان علم اللغة بشكل عام علم يوفر الكثير من الاليات للفهم والادراك ولقد وصل لدرجة من التطور ما يماثل بقية العلوم التطبيقية الاخرى. ينبغي النظر اللغوي في عمان ليس على ان اللهجة ما هي إلا انحراف عن اللغة الاصلية او اقل مستوى من الفصحى. هناك بالطبع مقولة لبرنارد شو عن الفرق بين اللغة واللهجة حيث يقول: اللغة عبارة عن لهجة ولكنها تمتلك جيشا وقوة بحرية. وفي الدرس اللغوي الحديث مازال باب الاختلاف مفتوحا حول تعريف اللهجة والفرق بينها وبين اللغة. المهم في الامر ان تدرس اللهجات على أنها واقع لغوي يملك من القوة والتأثير الشيء الكثير. فالتوقف عند اعتبار اي لهجة عمانية على انها انحراف عن اللغة العربية يؤدي بنا إلى ظلم اللهجات التي تحمل كل رؤانا واحلامنا وهويتنا. فهوية الانسان العماني لا تكمن في الملبس والمشرب والعمران بل فيما نتلفظ به ونقوله. الثراء اللغوي واللهجوي في عمان ينبغي الاهتام به على ارقى المستويات، فلان كانت اللغة العربية في عمان حسب النظام الاساسي هي اللغة الرسمية إلا ان اللهجات تمارس على مستوى الارض والواقع دورا مهما وحيويا على صعيد التواصل اليومي بين مختلف المجموعات اللغوية في عمان. الكثير الكثير من الدراسات الميدانية التي اجريت في سبيل توثيق التراث الشعبي في عمان تظل في حاجة إلى وجود مركز مختص بدراسة اللهجات العمانية وتوثيقها ودراستها. كما ان اللهجات العمانية تمر بالعديد من التغيرات والتبدلات لانستيطع رصدها ودراسة ابعادها دون وجود مركز يرصد كل هذه التغيرات. ثم ان هناك امر اخر وهو وجود الفضائيات والمحطات الاذاعية التي تنتهج دورا فاعلا في التأثير اللغوي على كل المتحدثين، فعلى المدى البعيد إلى اي حد نستطيع القول أننا نتحدث لهجة عمانية، الاخطر من ذلك هو هذا التشتيت اللغوي الممارس على الاجيال الناشئة التي تعيش في فوضى لهجوية ولغوية في منتهى الخطورة. منبع الخطورة ليس ينطلق من مفهوم ضيق للهوية او الوقوف في وجه التغير، فاللغات تتغير وتتبدل وتموت وتحيى ، ولكن إلى أي مدى نحن قادرون على الاحتكام على قول ان هذه اللهجة عمانية وما يميزها هو كذا وكذا، مثل هذا التوصيف غير ممكن حاليا بشكل علمي ، لان مثل هذا الحكم هو مبني على انطباع عام وليس على دراسة توثيقية.

مطلب إنشاء مركز لدراسة اللهجات العمانية ليس ترفا فكريا، فالملف اللغوي في عمان من المفترض ان يكون مهيأ ومرتب بشكل صحيح ليكون حاضرا في ذهن المخطط الاستراتيجي العماني او متخذ القرار وخصوصا في مجال التعليم ومجال الاعلام ولا أشك في أن هناك احدا يجادل في أهمية هذين القطاعين. علاوة على ذلك فهم التراث والثقافة في عمان يبني على ما سينجز من بحث لغوي واركيولوجي في صميم اللهجات العمانية التي بلا شك تخبئ الكثير من الاسرار والفتوحات العلمية والتي نحن بحاجة إليها لفهم أعمق للذهنية العمانية. الامثال والحكايات الشعبية تحوي على الكثير من الكنوز اللغوية، والامثال والحكايات هنا ليس تلك المنشورة بلغة عربية فصيحة او الحكايات المفصحة بل تلك المسرودة بذات اللهجة التي استخدمها الراوي. هنا بالضرورة أيضا تحضر أهمية الجانب الانثروبولوجي في هذا الجانب. الجهود السابقة مهمة للغاية ولكن يبقى القول ان وجود مركز علمي هو حجر الاساس الذي يوفر القاعدة الصلبة لنواة أي بحث لغوي في عمان سواء في مجال اللهجات او مجال اللغات التي يتحدث بها بعض العمانيين سواء اللغات الموجودة في جنوب عمان، البلوشية، السواحيلية، الكمزارية، اللوتيانية وغيرها من اللغات التي تمارس تأثيرها وتفاعلاتها. هذه اللهجات هي ثروة وطنية ودراستها هي صمام أمان للنسيج الاجتماعي والثقافي، فهذه الفسيفساء اللغوية تساهم بشكل فاعل في الاندامج الاجتماعي والثقافي بين مختلف المجموعات اللغوية في عمان. فبدون احساس هذه الجماعات اللغوية بالامن اللغوي فلن تتمكن من التواصل بين بعضها البعض، صحيح ان هناك الكثير من التعليقات او الاستهزاء ان هذه الجماعة اللغوية تقلب القاف كافا او الجيم ياء او تقدم حرفا مكان آخر او تفضل استخدام مفردة بدل اخرى كل هذه القضايا داخلت في صميم البحث اللغوي ، هذاه الصور النمطية مهمة في علم اللغة الاجتماعي، ولكن بالرغم من ذلك تبقى هناك مساحات للتفاهم. السلوك اللغوي لكل هذه المجموعات فاتن وساحر فعلى سبيل المثال بعض الجماعات تستعير مفردة او شبه جملة من جماعة اخرى ولكن الجماعة المستعيرة تقوم بإجراء تغيير صوتي او حذف حرف او إبدال حرف مكان آخر، كل هذه الاستعارات تتم عبر التواصل الاجتماعي او اللغوي بكل سلاسة ، بالرغم من ذلك هذا التواصل بحاجة إلى دراسة من داخله اي نحن بحاجة لدراسة كيفية حدوث هذا التواصل وعبر اي من القنوات وما التغييرات التي تحث للمفردة عندما تتنقل من جماعة لغوية إلى أخرى. فكل متغير لغوي مرتبط بمتغير اجتماعي.

الامكانيات الهائلة التي توفرها علوم اللسانيات الحديثة من المهم ان توظف لفهم الوضع اللغوي في عمان، صحيح ان مثل هذه العلوم تستغرق وقتا كثيرا وجهدا هائلا ولكن في النهاية توفر فرصا هائلة لحل الكثير من القضايا والاشكالات التي تمر بها المجتمعات المتعددة اللهجات واللغات، ففهم الكائن ينطلق من فهم سلوكه اللغوي حيث ان اللغة او اللهجة التي نتحث بها تحوي الكم الهائل من المعلومات والرموز والشفرات التي إن تمكنا من دراستها بشكل علمي صحيح وجدي سنتمكن من فهم أكبر لما نريد التخطيط له في المستقبل القريب منه والبعيد. والتخطيط هذا هدفه الانسان قبل اي شيء آخر.


No comments:

Post a Comment