قراءة الأستاذ عبدالرزاق الربيعي عن مجموعتي "كائنات الظهيرة"، والقراءة نشرت في مجلة نزوى الثقافية العدد الثالث والخمسون هنا
ابتداء بالإهداء يضعنا الشاعر عوض اللويهي بمجموعته الشعرية الأولى «كائنات الظهيرة » في قلب الطفولة مستعيرا من عوالمها الدهشة الأولى التي تمثل قاسما مشتركا أعظم بينه وبينها، فالمجموعة الصادرة عن وزارة التراث والثقافة يهديها الى إبنته «ايلاف» موضحا « بلثغتك الطفولية البريئة قلت لي مرة: جرحني الدم ، أهديك قصائدي مخافة انقلاب المجاز».
هذا المفتتح يلخص قلق الشاعر من «انقلابات مجازات الواقع المر الذي يواجهه في صحراء أيامه حيث الوقت خلق من خزف في لحظات الإنكسار فلم يجد سوى الاحتماء بالطفولة ملاذه الآمن وحصنه الأخير حيث البراءة والعذوبة ففي نصه «اطفال» يقول:
الاطفال ينكمشون
داخل اسنانهم اللبنية
مبللين قاماتهم
بأوراق الموز
باكين من قطط المشيئة السوداء
الاطفال يبكون
من امهات يتوحشن في آخر الليل
رتبوا عظامهم تجت جلد البلاستيك وناموا
العصافير تطرق حناجرهم
بمطرقة الماء
الاطفال يعودون الى احضان امهاتهم
تاركين اسماءهم
خلفهم
واجفانهم المخيطة
بفراشات صراخهم
غارقة في حليب البياض
وهكذا يغرق اللويهي في عوالم الطفولة التي يرى انها عوالم هشة سرعان ماتنهار في عالم تسيطر عليه «قطط المشيئة السوداء » والظلام فهذا الطفل القادم من الصحراء كان «مبتهجا بالخيول التي تتحرك بالكهرباء» كما يقول :
تدور بي الآلة المبهجة
وانا ثابت
فوق ظهر الحديد
لكن فجأة تتوقف ويفيق الشاعر من حلمه فهذه الخيول ليست سوى أوهام صنعتها مخيلة الشاعر التي تقوده للتأويل الذي قد ينكسر قليلا بالنسيان :
عندما ينعس القلب
يخرج كفاك
من زحمة المستحيل
يرسمان
الصبي الصغير
صاعدا
نحو غافته
في اعالي الصدى والعطش
في نصه «كائنات الظهيرة» الذي حملت المجموعة عنوانه يقدم ثلاثة عشر مقطعا قصيرا لحالات يلتقطها الشاعر من الطريق وكلها يجمعها خيط مفردة «الظهيرة» بشكل مباشر ومرة واحدة ذكرت بشكل غير مباشر:
الاطارات تغازل
الاسفلت الملتهب
سائق سيارة الاجرة
تحت المظلة
يستمتع
بآخر سيجارة
قبل ان يرسو
على دفء زوجته
فجملة(الاسفلت ملتهب) دالة على الظهيرة التي تتلون في كائنات الشاعر بعدة ألوان وفي المقطوعة ٧ يقول:
الغاف لا يبلل
وحشته في الظهيرة
سوى صوت
العصافير النزق
وريح ترقص
مع الغبار
البعيد
وهكذا يلتقط اللويهي صوره من تفاصيل الحياة اليومية حيث أن «كل الأشياء تولد من العفوية» كما يقول راسما عليها مشهدا شعريا، لذا تأتي دائما جملته منسابة مكتنزة بالمعنى عفوية ، عليها يبني تصوراته ورؤاه وموقفه من العالم ، فحين يرى (قارئة) تتصفح رواية (الحب في زمن الكوليرا) يدون مخاطبا إياها :
«أظنك تحملين الروائح
بكف مرتعشة
الغيوم تسيل على الشرفة
وانا بجوارك
أرقب التفاصيل
رائحة اللوز المر
تفوح من الحب في زمن الكوليرا»
وفي نص (طالب جامعي) يأتي على ذكر راسكولنيكوف بطل رواية دوستويفسكي(الجريمة والعقاب) :
«لا يرهقه البحث
عن عجوز راسكولينكوف
ليرهن عندها امتعته البسيطة
ولا يفكر في الوجود والعدم
او في نوع التبغ والمشروب
يكفيه
أن يضغط على مفاتيح
آلة الصرف
ليفتضح بؤس حياته»
وفي المجموعة تناصات تعكس ثقافة الشاعر وانصهار صوته بأصوات سابقة منطلقا من مقولة ميشيل فوكو الذي يرى ان النص يتشكل من تواجد أصوات متراكمة متسلسلة ومتتابعة ففي نصه «وتد وحيد في الغرفة العالية السقف» يقول:
تزداد الألفة بيننا
حتى يزرق العتاب
تجيئين
«إذ الذئب يعوي كالخليع المعيل»
الذي يرد في معلقة أمرئ القيس بقوله:
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
مستعيرا تلك الوحشة التي جثمت على صدر الملك الضليل وهو يقطع الصحراء التي يعوي بها الذئب الكثير العيال المنبوذ من أهله لتصوير أحاسيسه حين تجيء الحبيبة:
تاركة فوق وسادة
المشفى البيضاء
زكامك الدائم
والسعال المختلط
بماء ورودك الذابلة
كنت أظن
تقطعين الليل
بمقص الأظافر
فاتحة نافذة لقطط
الريح الجائعة
وترد تناصات مع آيات من القرآن الكريم كما في قوله تعالى «وتلك الأيام نداولها بين الناس» بقوله :
من نافذة يخرج صوت التسجيل
«وتلك الأيام نداولها بين الناس»
يزبد
يتدثر بغبار الحنق المجنون
ومع فيروز وأغنيتها (ذاكر ياترى) في نص (ولولا ثلاث) حيث يحيلنا هذا العنوان الى معلقة طرفة بن العبد وقوله:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
ولكن اللذة التي ينشدها عوض اللويهي غير اللذات التي تستهوي طرفة بن العبد فثلاثية اللذة عند اللويهي تتمثل في سماع أغنية لفيروز وخيط حكاية أقرب للروح من دمع الأم والرحيل المشتهى
وقد يتناص الشاعر من خلال تمثل نصوص، ففي نصه«فلاح » يقول:
خضراء
خضرة عيني زوجته عند الظهيرة
الاعشاب
الأشجار
النخل المرفوع بجذوع بنيه
أخضر
كفاه خضراوان
كل هذه الخضرة ترهقه
عندما يرفع عينيه الى السماء
لماذا لاتكون خضراء
يتناص مع لوركا أخرى دون ان يقع على النص ( الأول) وقوعا تاما لكي لا يقع في الاتباعية :
«خضراء أحبك خضراء
الريح خضراء
الفصول خضراء
المركب في البحر
والجواد على الجبل
على شرفتها حلم
والظل على خصرها
جسدا أخضر وشعرا أخضر
خضراء أحبك خضراء»
لكن اللويهي يستثمر هذه الخضرة ليطرح سؤالا دالا وبذلك فإنه يضخ الخضرة بدلالة جديدة تغذي رؤيته الجمالية وتمدها بطاقة جديدة .
ومن الملاحظ ان لغة الأسى طاغية على المجموعة فالشاعر يكتب مراثي للوقت حيث يقف وحيدا تتجاذبه عدة أزمان حين يرى رحيل الأصدقاء «عن الأبجدية في ساعة المطر القروية» :
شالك الآن
يمسح كل الخطوط
الصغيرة
عن وجهك القروي
رائحة العنب المر
توشك أن تعصر
الخمر
من قامة الرمل
والطرقات
وحين يدون هذه التفاصيل يزخرف اللويهي نصه بمعطيات البيئة العمانية حيث يتكرر عنده في اكثر من نص رائحة البحر والنخيل والجبال ووالأفلاج ونبات (الغاف)
علقنا أكبادنا على إبر المشيئة
مثلما يعلق نسر عجوز
تاريخه المتهالك
فوق غافة ميتة
وكذلك يذكر (البرم) وهي أزهار شجرة صحراوية معروفة في عمان و(المبصيلة) النبات ذو العيدان الداكنة الخضرة الطويلة والرفيعة والبل الذي هو زهور شجرة النارنج حيث يقول:
اقتربي
لتنسى أمك
البيت في(طشت )الغسيل
ويبيض البل
في قعر البئر
من الناحية الإيقاعية فإن اللويهي يكتب النص الجديد المتحرر موسيقيا من سطوة موسيقى الشعر العربي التقليدي رغم انه في نصه الأول الذي حمل عنوان (مفتتح) يتعمد وضع نص موزون وفق تفعيلة (الكامل) «متفاعلن متفاعلن» بقوله:
وكأنما الدنيا فضاء
واسع
وأنا سماء لا تفيض
على الفضاء
دعي القرنفل في تأنقه
فليس الآن
للذكرى مكان
لاتساع الحلم
والميلاد فاتحة الغياب»
ويكتفي من الوزن بهذا النص اليتيم وكانه أراد ان يبدأ احتفاءه بصخب موسيقي ويضع أما ناظري المتلقي فرشة موسيقية تسره وتمهد لما سيأتي من اشتغالات جمالية .
ويتجنب اللويهي اللغة التقليدية المثقلة بالحمولات البلاغية حيث يستل لغته من ثنايا الكلام اليومي:
العامل الآسيوي
يحاصر الظهيرة
بقطعة صغيرة
من فوطة مهترئة
يبللها بماء الفلج
المجاور للدكان
وأحيانا يلجأ الى تقطيع الجمل مستثمرا البياض محاولا ملأه بالدلالات :
كان مشهدا مريعا
أن أذبح
أضحية
العيد
بقلم
رصاص
مسنون
هي محاولة كانت تخامرني منذ الطفولة
أن أقطع الطرقات
اليك بنصف تفاحة
وأعطي بذرتها للبحر
كما فعل في قصيدته (الأطفال) حيث يفتت مفردة (تطرق) ويفرشها على أربعة سطور متيحا للمتلقي تخيل عملية الطرق :
العصافير
ت
ط
ر
ق
حناجرهم
بمطرقة الماء
بهذه اللغة اليومية البسيطة الموحية المتخففة من البلاغة التقليدية وبهذه الأحاسيس المندغمة مع حركة العالم وبهذا الصفاء الشعري ،يدون اللويهي اسمه بثقة كواحد من الشعراء الشباب الذين يؤكدون حضورهم بهدوء في المشهد الشعري العماني الجديد بدون ضجة ولا إدعاءات ولا زيف منطلقين من إخلاصهم للعملية الشعرية .