«استراق» هي المجموعة القصصية
الثانية لعبدالحكيم عبدالله بعد «مساس» الصادرة عن وزارة التراث والثقافة
في 2006م. وإن كان هناك فاصل زمني طويل بين المجموعتين فإنَّ هناك ما يبرر
طول المدة على الأقل لي أنا شخصيا، حيث إن عبدالحكيم أعتبره واحدًا من
الأصوات التي تشتغل على تجربتها بصبر وتمكن وروية.
يجدر بنا قبل الدخول إلى عوالم
المجموعة التوقف عند عنوان المجموعة أولا لنشرح من خلاله المعنى الذي حمل
عنوان هذه القراءة. يورد ابن منظور في لسان العرب في مادة (س ر ق) أنّ
الاستراق يأتي بمعنى اختلاس النظر والسمع، واسترق السمع أي استرق مستخفيا،
ويقال يُسارق النظر إليه إذا اهتبل غفلته لينظر إليه. فالعنوان إذن لم يأت
اعتباطًا بل هو عتبة مهمة من عتبات فهم النصوص القصصية التي تبلغ (11) نصًا
قصصيًا. دون أن ننسى بالطبع أن استراق هو عنوان داخلي لأحد النصوص، ولكن
العنوان الرئيس يحيلنا إلى الأهمية التي يوليها المؤلف للحواس فجموعته
الأولى كما ذكرنا تحمل عنوان (مساس) وهنا (استراق) وهذا ملمح مهم من ملامح
العنونة عند عبدالحكيم.
فالاستراق تشترك فيه بحسب ابن
منظور حاستا السمع والنظر ولكن هل ما تراه العين يختلف عما تسمعه الأذن؟ هل
أراد المؤلف القول هنا أن لنصوصه فضاءً متعدد الدلالات ليفسح لنفسه ولنا
أيضًا مجالا وأفقًا أكثر رحابة للفهم والتأويل؟
إنَّ المؤلف عبر هذه المجموعة
قد قام بعملية تصعيد للاستراق من كونه تلصصا أو اختلاسا بسيطا على كافة
التفاصيل المهمة أو حتى البسيطة والعادية سواء المتعلقة منها بالشخصيات
القصصية أو المكان الذي تدور فيه القصة، هذا الثراء في التفاصيل لا يقصد
منه القاص التأثيث المجاني لنصوصه وإنما توجيه القارئ وفتح حواسه وغرائز
الفضول لديه على ما يحيط به.
وعندما يقف القارئ مدهوشا أمام
التفاصيل المتناثرة التي قد تكون بدون معنى واضح محدد تبرز الحاجة أمامنا
للبحث عن إطار أو مرجع يساعدنا في فهم النص. وأبرز مثال على ذلك
قصة «العرض».
المجموعة لا تلتزم بخط متصاعد
من الأحداث يسير بوتيرة واحدة حسب المعتاد في الكتابة القصصية؛ فعبدالحكيم
يبني علاقته مع القارئ الصبور حيث إنه يقول له عليك أن تتأمل وتنظر للحياة
وفق ما تحويه المجموعة وما تحمله من أفق.
فقصص عبدالحكيم تنحاز إلى
الإنسان وعطشه للحياة، للإنسان في لحظة انكساره، ليس هناك من مواعظ رغم
قسوة بعض المشاهد التي يصفها. فالإبداع القصصي في هذه المجموعة له خطان
ناظمان وأساسيان هما الانتصار لفن القص صنعة والانتصار للإنسان. كل قصة في
هذه المجموعة لها هندسة خاصة، وفوق ذلك كله يولي عبدالحكيم افتتاحيات قصصه
وقفلاتها عناية خاصة، فمن خلال الافتتاحيات والقفلات يمكن لنا الدخول بيسر
إلى عالم النصوص والإبصار في متاهاتها. كما أن المجموعة تتأسس على تساكن
المتضادات فيها وهذا ما يكسب قصص المجموعة مفتاحا مهما في الدخول إلى
عوالمها وتفاصيلها المتشعبة.
لا يمكن بطبيعة الحال الوقوف
عند كل النصوص ولكن سأختار نماذج أقف عندها لكي أحاول مشاركة فهمي لها معكم
عبر الوقوف على قصتين هما العرض، واستراق.
في قصة العرض نجد
أن الافتتاحية تلعب إطارا ابتدائيا حاسما في رسم مسار القصة حيث نقرأ
«الرجال الذين وقفوا في الشمس لمدة ساعة، شعروا بعطش شديد» (ص 15).
هذه الافتتاحية تتشعب عنها
المسارات الأخرى التي تتفرع منها القصة، فبعد هذه الافتتاحية نجد القاص
يستثمرها بكل دقة، فالمقطع الثاني يفتتحه بـ «وقفوا» ثم مشهد النساء يطبخن
الغداء وهنّ واقفات. ثم مشهد المرأة التي «تقف مائلة، بوضع مريح للغاية» ثم
بعد ذلك نجد أن هناك الوضعيات تتغير حيث إن بائع المشروبات يفترش الأرض
والرجال الذين شاهدوا العرض افترشوا الأرض بعدما ما اشتروا منه.
الوجه الآخر لتساكن الأضداد في
هذه القصة المرأة التي تلبس الثوب الأزرق والتي تفنن الكاتب في ذكر
تفاصيلها بينما النساء اللواتي يطبخن بأكمام مبتلة. الرجال الذين يشاهدون
العرض والمهرجون يقفون في الشمس بينما النساء في مطابخهن في الظل والمرأة
ذات الثوب الأزرق تستظل بظل «جدار كوخ خشبي متداع».
بجانب ذلك نجد أن القاص يتعمد
تغييب مكان العرض في حين أنه يشير للمكان الذي يعود إليه الرجال «وصلوا إلى
قريتهم دائخين من الحر والجوع، ولكن غير غاضبين» (ص 19). تفصيل «غير
غاضبين» أتى في موقعه فبعد كل ذلك التعب والعطش عادوا إلى بيوتهم تصحبهم
البهجة بالعودة. بل المقطع الأخير قبل القفلة فيه من التضاد حيث أن الرجال
العائدين من مشاهدة العرض عادوا دائخين من الحر والعطش بينما الأغنام
والدجاجات بقيت مكانها حيث أنها وجدت طعامها في مكانه.
لماذا تعمد عبدالحكيم وضع قفلة
«لم يكن بينهم رجل يجيد الرسم على الزجاج» (ص 19). أسلوب جملة النفي يعتمد
عليه عبدالحكيم كثيرا في هذه المجموعة بل إنه استخدمه في قصة العرض في وصف
المعتوه. وهذا الأسلوب يأتي في هذه المجموعة للخروج من المشهد المعتاد إلى
غير المعتاد. ولكن في جملة القفلة نلاحظ أن الكاتب يتوقف عندها فقط بعكس ما
فعل عند حادثة المعتوه والغرض من ذلك إتاحة الفرصة للقارئ لفتح باب
التأويل لهذه الجملة بشكل خاص ولمعنى القصة بشكل عام. فالجو الذي كان فيه
الرجال الذين شاهدوا العرض كان الخلفية أو الإطار الذي تناثرت بسببه تفاصيل
القصة، ولكن الكاتب قام بتضييق نطاق القصة تمهيدا للملمتها وفق اتجاه
مخروطي أو قُمعي حيث تشكل قفلة القصة نهاية القُمع الضيقة والتي من خلالها
يمكن للقارئ فهم المغزى الكامل للقصة. ففضاء الظهيرة في مقابل الزجاج
الملون والمرسوم عليه تفاصيل القصة. فالقصة عبارة عن وصف ما قد رسم على
الزجاج، فالقصة كلها وصف للحركة بينما القفلة وصف لسكون التفاصيل على
الزجاج. فالكاتب نجح في إسكان المتضادات في نصه وفق رؤيته الفنية التي تخرج
من العادي إلى غير العادي ومن المتحرك إلى الساكن.
نلاحظ أن قصة استراق
تبدأ باستراق بصري بحيث يعطي السارد تفاصيل في غاية الدقة عن المرأة بحيث
لم يترك أدنى تفصيل لم يذكره، حتى إن الاستراق تصاعد من استراق إلى بَحْلقة
وتفصيل وكأنه وضع المرأة تحت مجهر مكبر، ويا للغرابة حين يقول البطل/
السارد «ألح عليّ فضول لأسمع اسمها…..» (ص28)، فلم يعد الاستراق البصري
يكفيه بل تحول إلى معرفة اسمها وكأن معرفة الاسم ستقوده لمعرفة تفاصيل
أكثر.
يعود السارد لممارسة الاستراق
إلى تفاصيل البطاقة الصحية إلى أن يدركه النعاس الذي يأتي ليحدث تحولا في
مسار القصة كلية ليصرفها عن مسارها المعتاد ويصعد بها إلى ما لم يكن
متوقعًا، فبمجرد ما يدخل البطل الحمّام؛ ليطرد النعاس عن عينيه تدخل القصة
في طور آخر، فالقصة كانت تسير في مسار عادي وطبيعي ولكنها تتحول هنا من
الضد إلى الضد. هذا التحول يقسّم القصة إلى قسمين، القسم الأول البطل كان
يتلصص فيه على المرأة ، بينما في القسم العجائبي يتحول الرجل إلى منظور
إليه فبمجرد ما غسل عينيه وتبسم في وجه المرآة حتى اكتشف العين النازفة في
أعلى المرآة، فهل كانت تلك العين تترصده منذ دخوله إلى المستشفى؟ ولماذا هي
عين امرأة وليست عين رجل مثلا؟ أم هل كانت فترة النعاس التي مرَّ بها
البطل هي فترة حدث فيها تحول المرأة المتلصص عليها لتترصد ذهابه إلى
الحمام؟ إن وجود الماء والمرأة والمرآة والنعاس في النص يشير إلى معنى
التحول أو القابلية للتحول، فالماء بطبيعته متحول والمرأة، كما أن المرآة
تعكس ما يظهر أمامها ولكنها في ذات الوقت لديها القدرة على تحويل الأشياء
أو بعبارة باشلار «المرآة صورة ساكنة للماء».
فمسار هذه القصة مرسوم بدقة
متناهية بحيث أن حمولة النص الدلالية تتصاعد وتتكثف في نهاية النص. فهذه
القصة تبدأ من نقطة محددة «في الزاوية اليمنى من غرفة الانتظار في المستشفى
وقرب النافذة الكبيرة تجلس امرأة شاحبة…» (ص27) وتنتهي «إلى أن أدركت بأنه
عين امرأة حمراء دامية تغمض وتفتح وسط الظلام السائل وعتمة غرفة
الحمام» (ص 31).
ففي مفتتح القصة هناك التفاصيل
واضحة ومفصلة، والوصف ينطلق من الزاوية اليمنى، فينفتح أفق النص إلى أن
ينتهي في غرفة الحمام المعتمة، فبين هذين القطبين تدور القصة بين قطبين
متناقضين ولكن برغم تناقضهما يؤطران القصة ويمنحانها إطارا مكانيا لحركة
البطل وتحولات المكان المحيط به.
فنهاية النص لدى عبدالحكيم
أشبه بنهاية القُمع حيث تتجمع الأشياء عنده لتعبر منه. في هذا القمع تذوب
التناقضات والتحولات لنقف عند تلك النقطة تحديدا لتضيء لنا النص كله.
فالقارئ هنا منقاد تماما وواقع تحت سلطة المؤلف حيث إن الأخير هو من يقترح
الحل المناسب للخروج من متاهة التفاصيل المعقدة. والمؤلف لا يمنح مفاتيح
نصوصه بسهوله ولكنه يعطي إشارة إلى أنَّ القصة قد انتهت ولكن المعنى لم
ينته بعد، وهذا ما نجح فيه عبدالحكيم عبدالله.
http://hayaah.net/?p=236266